ياسين أقطاي - يني شفق

خلال سنوات عملي في جامعة سلجوق بولاية قونية عشت تجارب عديدة أَعدها نعما عظيمة وكونت صداقات كثيرة، وشاركت في مجالس نقاش غنية وحاولت الاستفادة منها. ومن بين تلك النعم التي أقدرها بشدة التعرف على الأستاذ سعيد شيمشك وحضور مجالسه ودروسه ولكن إذا سألتموني عن أكثر ما أندم عليه، فهو أنني لم أتمكن من حضور المزيد من تلك المجالس.

لقد كان أحد الأعضاء الدائمين في جلساتنا الأسبوعية التي استمرت لسنوات عديدة، والتي كانت تضم مجموعة من علماء الدين وعلم الاجتماع والطب والأدب ورجال الأعمال. لم يكن يدير الأستاذ سعيد تلك الندوات، لكن بصراحة كنت أصغي إليه باهتمام شديد أكثر من أي شخص آخر في تلك المجالس. فكانت مساهماته في أي موضوع، وطريقته في طرح القضايا، ومعالجتها وشرحها، تثير فضولي و شغفي، لأنه كان دائما يقدم رؤية فريدة من نوعها. ولا تظنوا أن تلك الرؤية معقدة أو غامضة، بل كانت تتميز بالبساطة والوضوح، مع حرصه على تقديم التفسير الأكثر وضوحا. فكان القرآن الكريم مرجعه الأساسي دائما، وكان يحرص على الاستناد إليه في المقام الأول قبل اللجوء إلى المراجع الأخرى التي يلجأ إليها الكثيرون متأثرين بالعادات أو الموضة، ليكتشفوا لاحقا أنهم كمن يفسر الماء بعد الجهد بالماء.

لا تجده أبدا يدخل في نقاش حاد أو جدال عقيم مع أحد في أي مجلس، فالحقيقة في نظره ليست حكرا على أحد، لكنه كان يتمسك بالحقيقة في مسائل أساسية للغاية، ولم يتنازل عنها أبدا، ومع ذلك لم يكن لديه أي رغبة أو سعي لفرض هذه الحقيقة والمبادئ على الآخرين. فكانت هذه الصفة تبرز إحدى أهم خصائصه الشخصية، فلم يكن للأستاذ أي رغبة أو عجلة أو طموح في الوصول إلى منصب أو مكانة معينة.

لقد كرس حياته بالكامل لفهم القرآن الكريم والتعمق في فهمه ثم تجسيد هذا الفهم في حياته قبل أن يحاول شرحه للآخرين فإذا أردت أن تستفيد من علمه وفهمه أو تطرح عليه سؤالا، فستدرك أنك أمام بحر من العلم والمعرفة في مجال القرآن الكريم والعلوم الإسلامية. فهو مرشد موثوق به، لا يمكن أن يغشك أبدا، ولا يسعى لفرض أفكاره ومعتقداته عليك، ولا يحاول إقناعك بأي شيء بالقوة، ولا يطلب منك أي مقابل أو أجر أو منفعة لما يقدمه لك.

أود أن أوضح أنني عندما أطلق على الأستاذ سعيد شمشك لقب "المرشد" لا أقصد أبدا أن أنسب إليه الفكر أو المنهج الذي كان معارضا له طوال حياته. فقد كان له موقف صارم ضد ثقافة التمجيد والتعظيم التي تقدم كلام المرشد على كلام الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وربما لهذا السبب لم يلق قبولا لدى بعض الأوساط الثقافية المتسامحة، بل وصل الأمر إلى حد اتهامه بأقوال لم يقلها، مما أدى إلى استبعاده، وفي أفضل الحالات تم تجاهله. وفي بعض الأحيان كان هدفا لأولئك الذين أُطلقُ عليهم "متطرفي أهل السنة"، الذين تكون معتقداتهم وطرقهم بعيدة كل البعد عن أهل السنة. مع أن أسلوبه في فهم القرآن الكريم والسنة النبوية وتفسيرهما يمثل أحد أفضل الأمثلة المعاصرة على تطبيق مبادئ أهل السنة.

ويكشف رده يوما على منتقديه من منظور أهل السنة مدى الالتباس الفكري والديني الذي كان يضطر للتعامل معه. فقد قال لهم: "تنتقدوننا من وجهة نظر أهل السنة، ولربما تعدوننا أقرب إلى الشيعة دون علم منكم. والحال أن أحد أهم الفروق بين أهل السنة والشيعة هو مسألة العصمة. فالشيعة يؤمنون بعصمة الأئمة الاثني عشر، ويعتبرون قولهم بمثابة الوحي منزل، وهذا هو الفرق بينهم وبين أهل السنة. بينما نجد أن هؤلاء المنتقدين - مع أنهم لا يؤمنون بعصمة الأئمة الاثني عشر - يؤمنون بعصمة مئات المشايخ والكبار، ويعتبرون أقوالهم بمثابة الوحي منزل دون نقاش، ومع ذلك لا يرون أنفسهم قد انحرفوا عن مذهب أهل السنة!"

ولد الأستاذ في ماردين، وتلقى تعليمه الثانوي في مدرسة الأئمة والخطباء في ديار بكر، ثم أكمل تعليمه العالي في معهد الدراسات الإسلامية العليا في أرضروم. وبعد أن بدأ العمل في جامعة سلجوق عام 1977، حصل على درجة الدكتوراه من كلية الإلهيات في جامعة أنقرة. ولكن إلى جانب مسيرته التعليمية الرسمية، فقد نهل الأستاذ من معين المدارس الدينية التقليدية مما أكسبه مهارة عالية في اللغة العربية، ومعرفة واسعة بالعلوم الإسلامية. ورغم أنه عاش في فترة الجمهورية في تركيا التي كانت فيها جميع الظروف مهيأة لمنع نشوء علماء إسلاميين، فقد تمكن الأستاذ من التغلب على هذه الحواجز والتعلم على يد كبار العلماء مثل الأستاذ خليل جونينتش، وأصبح صهره أيضا. في الواقع إن مجرد الاطلاع على سيرة حياة الأستاذ خليل جونينتش، كفيل بمنح الإنسان وعيا خاصا بمدى صعوبة قراءة القرآن ودراسة العلوم الإسلامية في تركيا آنذاك. فاللجوء إلى الأنشطة السرية التي طورها الناس لدراسة العلوم الإسلامية المحظورة، ثم رحلة طلب العلم إلى سوريا التي كانت تحت الاحتلال الفرنسي ـ ولكن كانت العلوم الإسلامية تمارس فيها بحرية أكبر مقارنة بتركيا ـ تترك آثارا لا تمحى وعلامات في عقل الإنسان وشخصيته يهتدي بها في حياته.

كان الأستاذ واعيا بتاريخه الشخصي والتاريخ الذي سبقه، عارفا بربه وبالتالي عارفا بنفسه جيدا، مما جعله إنسانا حكيما. ولم يكن لديه أي سعي أو رغبة في فرض آرائه على الآخرين، أو في الوصول إلى منصب أو مكانة معينة. ويعود ذلك إلى حكمته. سبق لي أن رويت قصة عنه، حين كان يترأس أحد المؤتمرات، حيث قام بمداخلة هادئة ولكنها تعليمية عندما حاول أستاذ جامعي يحمل لقبا أكاديميا الاستفادة من هذا اللقب لفرض رأيه على شخص آخر غير حاصل على ألقاب أكاديمية ولكنه طور نفسه خارج المجال الأكاديمي. قال له بهدوء المعتاد: "عندما يجري الباحث دراسات حول موضوع أو اثنين، ويحل مسألة أو اثنتين، فإنه يحصل أكاديميا على ألقاب مثل الدكتور أو أستاذ مساعد أو برفيسور. ولكن عندما تحصل على هذه الألقاب، لا يعني ذلك أنك تعرف كل شيء في هذا المجال، بل تعلمت القليل فقط. وربما تصبح مؤهلا رسميا لإجراء أبحاث في هذا المجال. لكن من الممكن أيضا أن تجري أبحاثا أكثر بكثير وتطور نفسك أكثر بكثير دون الحصول على أي من هذه الألقاب."

كان الأستاذ قد جمع أبحاثه حول القرآن في عدة مؤلفات. وآخر ما أتمه كان تفسيرا للقرآن في خمسة مجلدات عمل عليه لسنوات طويلة، ونشره عام 2010 ليقدمه لقرائه. برأيي وبحسب أهل الاختصاص، يعد هذا التفسير من أجمل التفاسير المكتوبة باللغة التركية. يتميز تفسيره بالبساطة، فهو لا يطيل الكلام ولا يثقل القارئ بتفاصيل يمكن العثور عليها بسهولة في أماكن أخرى. بل يركز على جوهر الموضوع. ويعبر عنوان التفسير "تفسير القرآن مصدر الحياة" عن نظرة الأستاذ سعيد للقرآن ومكانته العالية لديه.

وفي أول ليلة من عيد الأضحى المبارك رحل الأستاذ سعيد شيمشك عن هذه الدنيا وانتقل إلى جوار ربه. وفي اليوم الثاني أقيمت الصلاة عليه في جامع كلية الشريعة بجامعة مرام في ولاية قونية، ثم وري الثرى. ويا لها من مصادفة أن زوجته السيدة حكمت، ابنة الشيخ خليل جونينتش، دفنت أيضا في اليوم الثاني من عيد الأضحى قبل 18 عاما (2006).

إنها خسارة كبيرة لقونية وتركيا والعالم الإسلامي. نسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته ونتقدم بالتعازي لكل محبيه.

وفي خبر محزن آخر، ودعنا أيضا عم زوجتي العزيز مصطفى آي يلدز أوغلو في اليوم الثالث من عيد الأضحى إثر حادث سير تعرض له قبل العيد بيومين ونقل على إثره إلى العناية المركزة. نود أن نشكر جميع الأصدقاء الذين اتصلوا أو أرسلوا رسالة أو حضروا لتقديم العزاء.

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس