محمود عثمان - خاص ترك برس

كل عمل إرهابي هو رسالة أو مجموعة رسائل يريد طرف ما إيصالها إلى جهة ما، هناك مرسل وعنوان وتوقيت ومضمون، أما ساعي البريد أو المنفذ أو الارهابي المنتحر فلا قيمة كبيرة لشكله وهويته وأيدولوجيته حيث جميعها تفصيلات فرعية تهم رجال الأمن فقط من أجل الاحتياط وردع ومنع حدوث عمليات أخرى.

من أجل فهم رسائل الهجوم الإرهابي الانتحاري الذي استهدف مطار أتاتورك الدولي بإسطنبول لا بد من تحليل عناصره الرئيسة الثلاثة، المكان والزمان والمضمون.

أولا: المكان

لا بد من أخذ طبيعة المكان المستهدف بعين الاعتبار، لماذا تم استهداف مدينة إسطنبول للمرة الثانية خلال أقل من شهر، ولماذا صالة وصول المسافرين الدولية؟

إذا علمنا أن ثلث اقتصاد تركيا يتركز في مدينة إسطنبول، وأن إسطنبول هي مركز المال والبورصة والبنك المركزي التركي، وأن إسطنبول هي أكبر وأهم منفذ حدودي لتركيا، وأن مطار إسطنبول هو الثالث ترتيبًا على أوروبا، بعد مطار هيثرو بلندن ومطار شارل ديغول بباريس، حيث استقبل العام الماضي 62 مليون سائحًا، ويعمل فيه أكثر من خمسين ألف موظف، كما يعتبر مطار أتاتورك من أهم مطارات الترانزيت وعبور المسافرين، فقد عبر من خلاله ثلاثون مليون مسافر نحو أنحاء العالم. عندها ندرك بوضوح سبب استهداف الإرهاب لإسطنبول قلب تركيا، ولمطار أتاتورك بوابتها على العالم.

ثانيا: التوقيت

عقب ظهور نتيجة الاستفتاء البريطاني لجهة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والذي تبعه هبوط كبير في قيمة الجنيه الإسترليني، وبورصة لندن، وانحدار كبير في الاقتصاد البريطاني، ثم قيام منظمة "ستاندرد أند بورز" بتخفيض الدرجة الائتمانية لبريطانيا إلى السالب، بدأ أصحاب رؤوس الأموال بالبحث عن مكان بديل لاستثماراتهم ونقل ودائعهم إليه. وبما أن مدينة إسطنبول هي أحد أقوى البدائل، وهي المرشحة الرئيسية لاستقبال رؤوس الأموال العربية والخليجية منها على وجه التحديد، فلا بد من رسالة لهؤلاء تقنعهم بأن إسطنبول غير آمنة، وتركيا ليست المكان المناسب، ولعل استهداف السياح الخليجيين الواصلين لتوهم لإسطنبول، حيث من بين الضحايا سياح خليجيون، خير دليل على ذلك.

إضافة إلى أن عطلة عيد الفطر على الأبواب ولم يبق لها سوى أسبوع، حيث بدأ السياح العرب تحديدا بالقدوم لتركيا لقضاء عطلة العيد وعطلتهم الصيفية في تركيا.

ثالثا: رسائل الهجوم الإرهابي

لقراءة رسائل الهجوم الإرهابي الذي استهدف تركيا وإسطنبول تحديدًا مرتين خلال شهر، لا بد من إلقاء نظرة على التحركات السياسية والخطوات الاستراتيجية التي أقدمت عليها الدولة المستهدفة تركيا خلال الأيام القليلة الماضية، ومن هي الأطراف المتضررة من هذه التحركات. فقد نجحت الدبلوماسية التركية في تحقيق اختراقين كبيرين لمسألتين مستعصيتين على المستوى الاستراتيجي، الاختراق الأول هو توقيع مذكرة التفاهم مع إسرائيل، بعد موافقة الأخيرة - إلى حد كبير - على شروط تركيا الثلاثة بخصوص فك الحصار المفروض على غزة، ودفع تعويضات لذوي ضحايا سفينة "مافي مرمرة"، والاعتذار لتركيا.

أيا كان الاعتراض على جزئيات تطبيق هذه الشروط من قبل الطرف الإسرائيلي، فإن تركيا نجحت استراتيجيًا في كسب غزة/ فلسطين كمنطقة نفوذ على حساب مصر صاحبة الكلمة الفصل هناك، ونجحت الدبلوماسية التركية أيضا في إجبار إسرائيل على الاعتذار لأول مرة في تاريخ الدولة العبرية، حيث لم يسبق لها أن قدمت اعتذارًا لأحد رغم احتلالها وجرائمها المستمرة بحق الشعب الفلسطيني.

أما الاختراق الثاني فقد تحقق بعودة قنوات الاتصال بين تركيا وروسيا، فقد أجرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم اتصالًا هاتفيًا بالرئيس رجب طيب أردوغان، عقب توجيه كل من الرئيس أردوغان ورئيس وزرائه بن علي يلدرم رسائل لنظرائهما بوتين وميدفيديف بمناسبة العيد الوطني لروسيا. أول ثمرات هذا الاتصال كان إعلان "غاز بروم" الروسية استعدادها لاستئناف المحادثات بشأن مشروع "السيل التركي"، ثم إلغاء بوتين الحظر على شركات السياحة الروسية من تنظيم رحلات سياحية لتركيا، وهذه خطوة في غاية الأهمية حيث يحتل السياح الروس المرتبة الأولى عددا من بين السياح الأجانب في تركيا، وتوقيتًا حيث صادفت اليوم الذي استهدف فيه الإرهاب مطار أتاتورك الدولي قلب تركيا وبوابتها السياحية.

من جهة أخرى يعتقد كثير من المراقبين السياسيين هنا في تركيا أن اختراقًا ثالثًا على الأبواب، يتمثل في إعادة العلاقات مع مصر الدولة العربية الأهم، والقوة الإقليمية التي لا يستغنى عنها في أي عملية لإعادة التوازن والاستقرار إلى منطقة الشرق الأوسط، لكن الإرهاب نجح في إشغال تركيا - ولو مؤقتا - بقضاياها الداخلية.

يقول المبدأ الأمني الشهير، إنك إذا أردت معرفة الجاني فابحث عن المستفيد من الجريمة. العمل الإرهابي الذي استهدف مطار أتاتورك هو بلا شك عمل استخباراتي احترافي يفوق قدرات وإمكانيات تنظيم "داعش"، وبالتالي فإن عملية البحث عن اللاعب أو اللاعبين الدوليين والاقليميين يجب أن يتركز عن الطرف المتضرر أو غير الراضي عن تحركات تركيا الأخيرة، وهنا يبرز أمامنا محور أمريكا - إيران – حزب العمال الكردستاني. هذا المحور هو المتضرر الأكبر من الانفتاح التركي على كل من روسيا وإسرائيل، إذ من شأن التحرك التركي الأخير، وخصوصا إذا تم ترميم العلاقات مع مصر، أن يكسر حالة الجمود والانسداد السياسي السائد في المنطقة، وخصوصا في المسألة السورية التي تحولت إلى مأساة إنسانية بكل ما تعنيه هذه الكلمة، في وقت يسعى فيه هذا المحور للاستفادة من هذه الحالة من أجل فرض أمر واقع، من خلال إحداث تغيير ديمغرافي يجري حاليا في كل من سورية والعراق على قدم وساق، وخلق كيانات انفصالية ليست سوى ألغامًا وقنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة، تبقي المنطقة في حالة اقتتال واحتراب إلى حين رضوخها وقبولها بشروط الوصاية والتبعية المطلقة.

هناك قناعة عند كثير من المراقبين والمحللين هنا بوجود قوى داخل وكالة الاستخبارات الأمريكية، وضمن المؤسسة العسكرية والأمنية الأمريكية، تتحرك في المنطقة دون الرجوع لإدارة الرئيس أوباما، الذي يتفق الجميع على أنه أضعف رئيس في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية.

رسائل الإرهاب المتعاقبة لتركيا واضحة جلية. تريد القوى والأطراف المرسلة من تركيا أن تنشغل بنفسها وتتقوقع على ذاتها، وأن تسحب يدها من جميع الملفات الإقليمية، وألا تتدخل في أي شأن خارجي، حتى لو كان على حساب أمنها الاستراتيجي. مقابل ذلك يقول الرئيس رجب طيب أردوغان: "لن نتخلى عن دورنا الإقليمي، ومسؤولياتنا التاريخية، ونحن مستعدون لدفع الثمن مهما كان غاليا".

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس