محمود عثمان - خاص ترك برس 

ذهول وغبطة.. فرح وأسى.. عزم وتصميم وتضحية.. ارتفاع للحس الوطني إلى ذروته.. مشاعر غريبة مركبة  تلاحظها وأنت تتجول شوارع إسطنبول وحواريها وأزقتها هذه الأيام.

المواطن التركي في حيرة من أمره، يبحث عن طريقة يعبر فيها عن مشاعره، ويسكب من خلالها شحنات عواطفه الجياشة.. تارة يشعل الأضواء الرباعية، وتارة يطلق العنان للزمامير والهتافات.. حركة دؤوب مستمرة طوال الليل للسيارات والباصات وحتى الناقلات والقلابات، تنطلق زرافات ووحدانا.

نشوة بالنصر مشوبة بقدر من الحيطة والحذر، حيث جبل الجليد لم تظهر قواعده بعد، حتى هذه اللحظة، غموض يكتنف بعض العمليات الأمنية وخصوصا في العاصمة أنقرة حيث لم تنته عمليات الدهم والاعتقال وتحرير الرهائن بعد، البعض نقل عن الرئيس أردوغان أن الأمر قد يطول لمدة أسبوع!. هل هذا من باب الحفاظ على جموع الجماهير في الشارع؟ أم أن هناك خوف حقيقي من تهديد ما زال قائمًا، قد تسببه خطة بديلة للانقلابيين؟!.

رسائل تحذيرية تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي يشبه مرسلوها هذه الليلة، ليلة الأحد، بيوم الرماة يوم غزوة أحد، وتدعو الشباب للرباط حتى يوم الاثنين، وعدم إخلاء المواقع، خشية عملية التفاف بديلة يمكن أن يقوم بها الانقلابيون.

شعور بالفخر والاعتزاز لدى الغالبية العظمى بأن الشعب التركي نجح في حماية أغلى ما يملك.. نجح في حماية ديمقراطيته اليافعة، التي قدمت من أجلها أنفسًا غالية، في مقدمتها رئيس الوزراء عدنان مندرس، والرئيس تورغوت أوزال، فقد أعدم الأول، وقتل الثاني بالسم. ولعل من المفارقات الغريبة أن أهم مراكز الرباط والتصدي للمحاولة الانقلابية في إسطنبول كان في شارع الوطن، حيث يرقد الشهيدان مندرس وأوزال!.

لم أتمكن من الجلوس في البيت طويلا، بسبب الإلحاح الشديد من قبل أفراد العائلة، يريدون الخروج للشارع مثل البارحة، للمشاركة بهذا العيد والمهرجان الوطني الكبير.. بدأنا جولتنا من شارع الوطن، ثم منطقة الفاتح وأكسراي، وانتهى بنا المطاف إلى منطقة التقسيم.. هناك اعترضنا رجل متوسط في العمر، بطريقة جدية سألنا: هل أتيتم إلى هنا من أجل أردوغان؟.. قلنا: بل من أجل من هو أغلى من أردوغان.. من أجل الوطن، والجمهورية، والديمقراطية.. بأسلوب من يعرف الجواب مسبقًا قال لنا: أنتم فقدتم صوابكم!.

مرة أخرى يخرج علينا أصدقاؤنا الليبراليون معترضين، لماذا أصوات التكبير، ولماذا تصدح المآذن بالصلوات على النبي ﷺ والتكبير بشكل مستمر؟!. ولماذا حولتم خروج الناس ضد الانقلاب إلى ثورة اسلامية؟!.

علينا الإشارة أولًا إلى أن أكثر هؤلاء من أصحاب النوايا الحسنة، ومن أشد المدافعين عن الحريات وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، ومن أشد المعارضين للاستبداد والدكتاتوريات، لكن لديهم بعض الإشكاليات يتحسسون منها.

ليس من قبيل الرد على الشبهات فليس هذا شأننا ولا مهمتنا، لكن من باب سرد بعض الحقائق التي يجهلها المثقف العربي، بله الانسان العادي، حول ثقافة الأتراك وبعض عاداتهم.

ولنبدأ بهتاف (يا ألله باسم الله والله أكبر)، فهو حداء كان العثمانيون يرددونه في معاركهم لحظة الهجوم والالتحام بالعدو.. وأكثر من ذلك فإن من يستخدمه كشعار سياسي في يومنا هذا هم القوميون الأتراك، من منتسبي حزب الحركة القومي وغيرهم، ربما ليس تدينًا إنما كجزء من التراث التركي. أما منتسبو حزب العدالة والتنمية ومشجعوه وناخبوه فلا يرددون مثل هذا الشعار، اللهم إلا ما يقوله أردوغان عند افتتاحه لمكان أو وضعه حجر أساس  لمشروع حيث يقول: (يا ألله.. باسم الله) فقط.

أما عن أصوات الأذان والتكبيرات والصلوات في غير أوقات الصلاة، فهي تقليد عثماني أيضا، سمعته في طرابلس بليبيا أول مرة، عندما زرتها عام 2012 أثناء الثورة وقبل أن تقع الفتنة، فقد استغربت من أصوات التكبير في غير موعد الصلاة، وعندما سألت صديقي الليبي، قال لي: بهذه انتصرنا على القذافي!. البارحة علمت من الأتراك بأن هذه التكبيرات تصدح بها المآذن وقت الحرب وهجوم الأعداء، وهي عرف عثماني أيضا.

إذا أيها السادة: ما ترون وتسمعون منذ البارحة، ليس ثورة اسلامية انطلقت من المساجد، والانطلاق من المساجد لا يعيب الثورات طبعًا، ولا يحمل أي طابع ايدلوجي ولا لون عقائدي، والأهم من ذلك أنه ليس ملكا لأي حزب سياسي ولا جماعة ولا فصيل ولا شريحة ولا مذهب ولا عرق، بل هو ملك تركيا الوطن كله، والشعب التركي بأسره.

لن أخوض غمار التحليل السياسي هذه المرة، بل سأكتفي بالإشارة إلى ذلك المظهر المهيب الذي تقشعر من رمزيته وعظمته الأبدان.. تحت قبة مجلس الأمة التركي الكبير، الذي تعرض للقصف من قبل الانقلابيين، عقد اجتماع استثنائي، ضم إلى جانب نواب الأحزاب السياسية، كلا من رئيس الحكومة بن علي يلدرم، وقائد الجيش رئيس الأركان خلوصي أكار، الذي كان محتجزا من طرف الانقلابيين وحرر، ومدير الشؤون الدينية محمد غورماز، وممثلي سلك القضاء، إضافة إلى ممثلي الدول من أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمدين في أنقرة.

افتتح الاجتماع بالنشيد الوطني التركي، أعقبه إعلان رئيس البرلمان اسماعيل قهرمان يوم 15 تموز/ يوليو يوم عيد للديمقراطية، وانتهى ببيان مشترك شاركت جميع الأحزاب السياسية في صياغته والتوقيع عليه يرفض الانقلاب رفضًا قاطعًا.

نجح الأتراك، وربما للمرة الأولى في تاريخهم الحديث، في رص صفوفهم من أجل أداء صلاة الجنازة على حقبة الانقلابات العسكرية، ليدفنوها في مزبلة التاريخ إلى غير رجعة.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس