محمد زاهد جول - القدس العربي

في ظل الحديث عن المباحثات الحزبية لتشكيل حكومة ائتلافية، عقب نتائج الانتخابات البرلمانية 7 يونيو2015، التي أفرزت احتمالين لا ثالث لهما، إما حكومة ائتلافية أو انتخابات مبكرة، فإن رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان أعطى الأولوية للحكومة الائتلافية، على أمل أن تعمل الأحزاب التركية الفائزة بحسب قوانين الديمقراطية في أنظمة الحكم البرلمانية الراسخة في أوروبا.

ولكن سعي الأحزاب السياسية الفائزة في الانتخابات لا تعمل بصورة إيجابية مع هذه المرحلة الانتقالية إلى حكومة ائتلافية قوية، فهي أولاً تسعى للمشاركة في المباحثات البينية لتشكيل الحكومة الائتلافية، ولكنها تقوم بتصريحات واعمال غير ديمقراطية وغير قانونية، رغم رغبة أردوغان أن تنجح في مفاوضاتها، ورغم ما أبداه رؤساء الغرف التجارية والاقتصاديين الأتراك لهم من أمنيات النجاح. فالاقتصاديون يصرون على حكومة ائتلافية بأسرع وقت ممكن، لأن الاحتمال الآخر سيكون نحو انتخابات مبكرة، وهو ما سوف يرهق الاقتصاد والمواطن التركي بمتاعب كبيرة، لا تخلو من المشاعر السلبية نحو الديمقراطية التركية العاجزة عن التفاهم على حكومة ائتلافية مثل الحكومات الأوروبية المتقدمة.

هذه المواقف الايجابية والمشجعة على تشكيل الحكومة الائتلافية يضع البعض أمامها العراقيل، وكأن موقفهم الحقيقي هو تعطيل تشكيل الحكومة وهم يفاوضون على تشكيل حكومة ائتلافية، بالأخص أن بعض قادة الأحزاب سارع إلى نفي إمكانية التحالف مع الحزب الحاكم، مثل دولة باهشلي رئيس حزب الحركة القومية، وصلاح الدين ديمرطاش رئيس حزب ديمقراطية الشعوب فور ظهور نتائج الانتخابات الأولية، بينما ترك كلجدار أغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري الباب مفتوحاً، فلم يعلن عن موقف حزبه وشخصه بشأن حكومة ائتلافية، بدأ الحديث عنها منذ اللحظة الأولى لإعلان النتائج.

وبالنظر إلى أن نتائج الانتخابات جاءت مفاجئة للكثيرين بعدم حصول حزب العدالة والتنمية على الأغلبية البرلمانية ولا الأكثرية، فقد اعتبرت كل الأحزاب الأخرى نفسها فائزة في هذه الانتخابات، لمجرد تراجع حزب العدالة والتنمية عن مكانته البرلمانية السابقة، وعدم قدرته على تشكيل الحكومة منفردا، فأخذت تتباهى بالنتائج منذ الساعات الأولى للنتائج الأولية وتعلن الأفراح، في جو ساد فيه القلق أجواء حزب العدالة والتنمية وأنصاره، أدى إلى تأخر الكلمة الموعودة لرئيس حزب العدالة والتنمية أحمد داود أغلو من الساعة الثامنة إلى العاشرة مساء، حتى خرج ليعلن استيعاب حزب العدالة والتنمية للصدمة الأولى، وأنه يقبل بالإرادة الشعبية، ولكنه لم يفوت الفرصة في تصويب بوصلة قراءة الأحزاب المعارضة الفائزة في الانتخابات، التي كانت في أوج فرحتها وابتهاجها، فقال لهم لا تظنوا أنكم هزمتم حزب العدالة والتنمية، لأن القراءة الأولية للنتائج تقول بحصول الحزب على 41٪ من الأصوات، وأنه في المرتبة الأولى، وهذا يعني أن حزب العدالة والتنمية في مقدمة الأحزاب مع فارق كبير، وهذا يعني ان الشعب التركي لا يزال يعطي صوته لحزب العدالة والتنمية لمواصلة قيادة المسيرة في المرحلة المقبلة، والحزب سيواصل هذه المهمة، لأنه أثبت جدارته في الحكم وقيادة تركيا في المرحلة الماضية، ولن يتخلى عن مسؤولياته تجاه الشعب التركي في المستقبل.

هذه الرسالة التي وجهها رئيس حزب العدالة والتنمية لم يسمعها رؤساء أحزاب المعارضة، وإن سمعوها لم يفكروا فيها، لأن نشوة ما ظنوه انتصارا أنساهم سماع الأفكار السياسية، وحصرهم بالمناكفات الحزبية، بالأخص ظنهم ان الفرصة التاريخية جاءت إليهم على أقدامها، فأصوات الشعب التركي اعطت المكانة الأولى، وبفارق كبير لحزب العدالة والتنمية، واعطت كلا الحزبين المعارضين التقليديين وهما، حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية النتائج السابقة نفسها تقريباً، بينما الجديد هو النتيجة المرتفعة التي حصلها حزب ديمقراطية الشعوب، ولهذا الارتفاع قصة لم يأت داود اغلو على ذكرها، فما كان ينبغي عليه أن يذكره في كلمته الأولى في التعليق على نتائج الانتخابات، أن النتيجة التي حصلها حزب ديمقراطية الشعوب ليست النسبة الحقيقية التي يمتلكها هذا الحزب في الشارع التركي، فهناك لعبة ما حصلت رفعت مستوى التصويت له من 7٪ إلى 13٪، وليس فقط إلى 10٪ التي كان يحلم حزب ديمقراطية الشعوب بها.

هذه اللعبة لم يكشفها داود أغلو نفسه، ولكن كشفها صلاح الدين ديمرطاش رئيس حزب ديمقراطية الشعوب في تصريحاته الأولى، وهو في نشوة الانتصار، فقال وهو يشكر من صوتوا له من غير الأكراد واصفاً أصواتهم بالأصوات «المعارة» لحزبه، أي الأصوات التي ساهمت في بلوغه هذه النسبة المرتفعة، التي ما كان له ان يحققها لو بقي الأمر لقدراته الحزبية وانصاره فقط، أو لو خاض العملية الانتخابية الديمقراطية بنزاهة، ولم يستخدم الطرق الترهيبية وغير الديمقراطية في مناطق الأكراد. وبعد أن ادرك ديمرطاش خطأه في تصريحه السابق عاد واعتذر لأصحاب الأصوات المعارة، ولكنه وغيره لم يستفد من هذه اللعبة الانتخابية التي أفرزت نسباً غير حقيقية.

فهذه النسبة التي حازها حزب ديمقراطية الشعوب 13٪ غير مرضية للشعب التركي، لأنها لم تقدم الأكراد في الانتخابات أكثر من حجمهم فقط، وإنما أثرت على نسبة فوز حزب العدالة والتنمية أيضاً، والخسارة الأكبر انها قد تؤدي بالبلاد إلى إضرابات سياسية ومتاعب اقتصادية، إذا فشلت هذه الأحزاب الصغرى في التفاعل الإيجابي مع الحزب الأكبر الفائز بالمرتبة الأولى في هذه الانتخابات وهو حزب العدالة والتنمية، فعدم إدارة مرحلة تشكيل الحكومة الائتلافية بنجاح سيؤدي إلى انتخابات مبكرة حتماً، وبالتالي فإنها أي الانتخابات المبكرة سوف تلغي الأصوات المعارة، وتعيد الأمور إلى التوازن الصحيح في المشهد السياسي التركي والتطور في الوعي السياسي الذي يستحقه.

لذلك فإن الشعب التركي وهو يراقب نتائج هذه الانتخابات وما ترتب عليها من أخطاء تمارسها احزاب المعارضة مع حزب العدالة والتنمية، فإنه يختزن في ذاكرته محاسبة ومسؤولية، اما المحاسبة فهي ان الحزم الديمقراطية التي قدمها حزب العدالة والتنمية للأقليات القومية استغلها البعض في بعث الهوية القومية الاستقلالية السلبية، وبعضها قد تصل إلى الكراهية للدولة التركية، من خلال الديمقراطية الجديدة، فعدم مشاركة نواب حزب ديمقراطية الشعوب نواب الشعب التركي في النشيد الوطني في جلسة الافتتاح الأولى لمجلس الأمة الكبير، وأداء يمين القسم الدستورية، هذا الامتناع يكشف عن موقف سلبي في المشهد البرلماني الأول لهذا المجلس الجديد، في قضية ما كان ينبغي ان تكون مثار اختلاف، او كان يمكن تمريرها بدون إثارة مشاعر كراهية لدى أبناء الشعب التركي، والصورة الغريبة الأخرى ان تأتي نائبة تركية فائزة في عضوية مجلس الأمة التركي الكبير لتدعي أنها لا تعرف اللغة التركية وتريد إلقاء القسم باللغة الكردية او الفرنسية أو الانكليزية، وكأنها تقول انها تستطيع إلقاء القسم بكل لغات العالم إلا اللغة التركية، لغة المجلس البرلماني الذي فازت بعضويته بأصوات معارة من الآخرين

هذه الصور السلبية والمواقف التي تثير مشاعر الكراهية هناك من يتقصدها عمداً، بل ويثير ما هو أكثر منها كراهية وقلقاً على مستقبل البلاد، إذا سارت على هذا النحو التنازعي، وهو اشتراط رؤساء هذه الأحزاب المعارضة لحزب العدالة والتنمية، أنها تفتح معركتها على رئيس الجمهورية المنتخب من الشعب مباشرة، وكأنها لا تدرك أن معركتها هي مع الشعب التركي نفسه، وكأنها لا تدرك أن من اصول اللعبة الديمقراطية الأوروبية والمعاصرة أن المعارضة هي بين الأحزاب الحاكمة وأحزاب المعارضة في النظام البرلماني، فالأحزاب التي لا تدخل الحكومة ذات الحزب الواحد أو الائتلافية تشكل أحزابا معارضة للحكومة في النظام البرلماني، أما الأحزاب المعارضة في النظام الرئاسي فهي تشكل معارضة ضد رئيس الجمهورية، لأنه رئيس الحزب الحاكم مثل أمريكا، وفي الحالتين تكون معارضتها داخل قبة البرلمان، أو في الكونغرس وليس في المهرجانات الجماهيرية، وهذا التصور لا تمارسه الأحزاب التركية الصغرى مع الحزب الأكبر أولا، وكذلك تتعامل مع الرئيس التركي وكأنه رئيس الحكومة ورئيس حزب العدالة والتنمية وليس رئيس الجمهورية، او أنها تظن ان النظام الرئاسي قد أصبح حقيقة في تركيا، فتقوم بمعارضة رئيس الجمهورية، وهي ليست في النظام الرئاسي، وهذا يكشف رغبتها بإثارة المشاكل اكثر من رغبتها في السعي إلى تشكيل حكومة ائتلافية قوية أولاً، ثم عدم حرصها على ان تمارس الحكومة الائتلافية اعمالها وفق احكام الدستور التركي، بما فيها علاقتها مع رئيس الجمهورية، حسبما منحه الدستور التركي المعمول به الآن من صلاحيات.

إن على الأحزاب التركية ان تجعل مسألة الاختلاف مع صلاحيات رئيس الجمهورية من اعمال الحكومة، وهي على رأس عملها، أي بعد تشكيل الحكومة وكسب الثقة في البرلمان، فإذا وجدت أن رئيس الجمهورية تجاوز صلاحياته ويعمل على التدخل في شؤون الحكومة، وهي تمارس أعمالها الحكومية، فلها الاعتراض القانوني على ذلك، وعليها بيان المواد الدستورية التي يخالفها رئيس الجمهورية، ولها ان تلجأ إلى المحكمة الدستورية، وأن تستعمل صلاحياتها داخل المجلس النيابي لكسب تأييد النواب الآخرين، وأخير لها حق كسب القضية الخلافية مع رئيس الجمهورية امام الرأي العام التركي والأوروبي والعالمي، علما بان هذه القضايا هي قوانين دستورية في الأساس، والاعتراض عليها ينبغي ان يكون بالمطالبة بتعديل الدستور نفسه، وليست قضايا خلافية، وليست محل جعلها شروطاً حزبية لتشكيل الحكومات الائتلافية، وكذلك قضية إقامة رئيس الجمهورية في القصر الجديد «القصر الأبيض»، فهذه من القضايا التي ينبغي على الأحزاب ان تثيرها تحت قبة البرلمان، وعدم المناكفة والنزاع فيها في الخطابات الشعبية، فهذا لا يليق بعمل الأحزاب السياسية التي تحرص على سمعة وهيبة الدولة التركية ورئيسها المنتخب من الشعب مباشرة.

إن تصريحات رؤساء الأحزاب حول صلاحيات رئيس الجمهورية، واعتبارها من شروط تشكيل الحكومة، يظهر انها وهي تدعي سعيها إلى تشكيل الحكومة الائتلافية، ولكنها في الحقيقة تخوض صراع محاسبة وانتقام مع مؤسس حزب العدالة والتنمية الذي أصبح رئيساً للجمهورية بإرادة الشعب التركي، والذي جعلها من مخلفات العمل السياسي السابق، وقد خرجت إلى ساحة العمل السياسي من صناديق المخازن لتزاول عملاً لم تعد مهيأة له، فما صنعه أردوغان وحزب العدالة والتنمية لتركيا لم يصنعه حزب سياسي تركي من قبل، وهذا الحزب هو وحده القادر على قيادة المرحلة المقبلة، ولكنه امام ضغوط الديمقراطية سيقبل ويتحمل غير راض عن المناكفات الحزبية في مرحلة تشكيل الحكومة، ولكنه يعلم أن الشعب التركي سوف يتحمل مسؤوليته التاريخية، فلن يضيع منجزات المرحلة السابقة لسواد عيون اعداء تركيا في الداخل والخارج، ولن يقبل أن تطول هذه المناكفات والأحقاد ومشاعر الكراهية، وسيعمل لتكون الانتخابات المبكرة تصويباً لنتائج الانتخابات التي لعبت فيها الأصوات المعارة من الداخل والخارج دورها في تزوير الحقيقة، فالدعوة إلى الانتخابات المبكرة ستكون من مسؤولية الشعب التركي في تصويب مسار الديمقراطية التي لا يحسن رؤساء الأحزاب الصغرى الارتقاء بها إلى التقدم والنجاح، فتركيا اليوم بحاجة إلى أردوغان وحزب العدالة والتنمية اكثر من ذي قبل ألف مرة ومرة، والشعب التركي سوف يتحمل مسؤوليته في حماية منجزاته أولاً، وفي صناعة تركيا الجديدة ثانياً، وفي ان تكون تركيا من الدول المتقدمة العشر الأولى عام 2023 مهما عمل اعداء الداخل والخارج ثالثاً، فالأصوات المعارة لا تحرف مسار امة صاعدة بقوة وعزيمة تقهر الصعاب وتهزم الأحزاب الخاوية.

عن الكاتب

محمد زاهد جول

كاتب وباحث تركي مهتم بالسياسة التركية والعربية والحركات الإسلامية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس