عمر تشيليك - دورية السياسة التركية - ترجمة وتحرير ترك برس

إن أهم عنصر في التاريخ الطويل لعلاقات تركيا والاتحاد الأوروبي هو التصميم الذي أظهره الجانبان لمواصلة العلاقة على الرغم من طبيعتها المتقلبة والأزمات العرضية. تمر العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي حاليًا بفترة صعبة وحرجة أخرى. على أنه لا توجد مشاكل هيكلية يتعذر حلها بين الطرفين، بل على العكس، أصبح التعاون بين تركيا والاتحاد الأوروبي أكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية في الوقت الراهن مما كان عليه في الماضي.

يكشف استقراء المسار التاريخي للعلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي أن التغيرات في التكامل الأوروبي والنظام الدولي لهما تأثير مباشر في العلاقة، حيث إن تركيا بلد كبير ودولة أوروبية مهمة. ومن بين الأسباب الرئيسة لتقلب طبيعة العلاقة استبعاد تركيا من مشاريع التنمية الإقليمية أو العالمية. ومثلما كانت الحرب الباردة والتطورات اللاحقة عاملاً حاسماً في الماضي، فمن المستحيل اليوم اعتبار العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي منفصلة عن طبيعة النظام الدولي المتعددة الأقطاب، والتطورات الأخيرة في منطقتنا، والأزمات التي يواجهها الاتحاد الأوروبي. لذلك، فمن المهم تحليل التغيرات في الظروف الدولية وتحديات التكامل التي تواجهها أوروبا قبل معالجة الديناميات الأساسية للعلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي ومستقبلها.

زيادة عدم اليقين في النظام الدولي

يواجه النظام الدولي تحديات كبيرة، نظرا لأن ميزان القوى الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية قد انقلب رأسا على عقب، وأن التكامل الأوروبي يحاول إعادة تعريف نفسه في لحظة أزمة وجودية.

إن النظام الذي بناه العالم الغربي حول القيم الاقتصادية والسياسية المتحررة بعد الحرب العالمية الثانية، ومؤسسات وقواعد هذا النظام، كانت كافية تقريبا لضمان الاستقرار في ظل ظروف الحرب الباردة. لكن هذا النظام بدأ يتعرض لهزات في عقد التسعينيات بعد انتهاء الحرب الباردة. وخلال هذه الفترة وصلت العولمة إلى أبعد المناطق في العالم، في حين بدأ الإرهاب والنزعات القومية الصغيرة والسياسة القائمة على الهوية العرقية والدينية في الانتشار، وتآكل النظام الاقتصادي والسياسي القائم على الدول القومية من القمة بسبب ضغوط العولمة، ومن الأسفل بالنزعة المحلية والإقليمية. وقد أدت هذه التطورات إلى الحالة الراهنة، حيث أصبح  العالم أقل ترابطا وليبرالية ونظاما.

وقد أدت عملية التحول العالمي تلك إلى ظهور حقائق جيوسياسية جديدة، تحدت بشكل كبير مكانة الغرب الرئيسية بوصفه قائدا للعالم، إذ تحول محور القوة الذي كان العامل الحاسم في العلاقات الدولية من الغرب إلى الشرق، من تحالف الأطلسي الذي تقوده الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى منفذ المحيط الهادئ الذي يتألف من دول مثل روسيا والصين والهند. إن حقيقة انتقال مركز الثقل في النظام الدولي على نحو متزايد إلى حوض آسيا والمحيط الهادئ تعمل أيضا على إعادة تشكيل موازين القوى الإقليمية. في الماضي، كان ينظر إلى الصين على أنها منافس اقتصادي فقط، ولكن الصين أصبحت اليوم قوة سياسية وعسكرية عالمية تنافس الحضارة الغربية. وعلاوة على ذلك، تعمل روسيا على توسيع نفوذها على مساحة كبيرة تضم الجناح الشرقي للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، الأمر الذي تسبب في مخاوف استراتيجية واقتصادية وسياسية في الغرب.

على أن ظهور مراكز قوى جديدة ليس هو التحدي الوحيد للوضع الراهن وتزعزع النظام العالمي الذي تشكله القيم الغربية، فهناك  تطور آخر هو تهديد "محلي" من داخل الغرب ذاته. ذلك أن المشاكل الاجتماعية والاقتصادية وأوجه الغبن التي ميزت الثلاثين سنة الماضية قد أدت إلى ولادة مجموعة كبيرة من الناس يمكن تسميتهم "الخاسرين من العولمة". وحين فقد الناس الثقة في الحكومات المركزية بسبب مخاوفهم وقلقهم من المستقبل، اكتسبت الأحزاب الهامشية في اليمين واليسار زخما أدى إلى تآكل الديمقراطيات الليبرالية، وإلى أن يفقد "الوسط السياسي" دعمه الاجتماعي وأن تتولى القوى الناشزة زمام القيادة.

لم يكن التكامل الأوروبي محصنا من التغير في النظام الدولي. ومن بين التحديات الرئيسية التي تواجه الاتحاد الأوروبي صعود اليمين المتطرف في الانتخابات على مدى السنوات القليلة الماضية، وتغير السياسة التي أدخلتها الإدارة الأمريكية الجديدة، وهو اتجاه نحو الانعزالية فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومشكلة اللاجئين، ولا سيما الانقسامات العميقة داخل الاتحاد الأوروبي بشأن هذه القضية. إن تراجع التزام الولايات المتحدة بالتعددية وما نجم عن ذلك من انهيار العلاقات في حلف الأطلسي قد أجبر الاتحاد الأوروبي على إعادة النظر في كيفية تحديد دوره في النظام الدولي، وكيفية تشكيل مستقبله باستخدام موارده الخاصة، خاصة فيما يتعلق بالأمن.

كيف يبدو مستقبل الاتحاد الأوروبي؟

كان تأسيس الاتحاد الأوروبي قصة نجاح فريدة بعد الحرب العالمية الثانية، عندما عزمت جميع الأطراف المعنية على التغلب على خلافاتها. ونتيجة لتكاملها، حققت أوروبا مستوى غير مسبوق من الأمن والسلام والازدهار، ولعبت الساحة السياسية الدولية اليوم دورا كبيرا في قصة النجاح تلك. ولكن، وكما أوضحنا آنفا، فمثلما أجبر الوضع الدولي في فترة ما بعد الحرب على تشكيل الاتحاد الأوروبي وجعله "القوة الناعمة" الأكثر أهمية في عصره ، فإن المناخ السياسي الحالي يجبر الاتحاد الأوروبي على إعادة التموضع في النظام الدولي.

في حقبة ما بعد الحرب، كان دور الاتحاد الأوروبي في النظام العالمي - المستند إلى الإجماع الليبرالي، وليس إلى القوة العسكرية - اقتصاديًا وسياسيًا وثقافيًا. وكان من الضروري للاتحاد ضمان السلام والازدهار لنفسه، استنادا إلى حقوق الإنسان العالمية، وجعل هذا النموذج جذابا حتى يكون النظام الجديد مستداما. لكن الأزمات المختلفة التي تواجه التكامل الأوروبي اليوم قد أضعفت الاتحاد الأوروبي كنموذج. والأنكى من ذلك، أنه على الرغم من أن الاقتصاد قد بدأ يتعافى بعد أزمة الديون الأوروبية، فإن رغبة الاتحاد الأوروبي في أن يكون قائدا في المشاكل العالمية، قد تعرضت لخطر شديد بسبب تحديات مثل  البريكسيت (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، وأزمة الهجرة غير النظامية.

تتفاقم الشروخ التي تتعرض لها الصورة التي تقدمها أوروبا للعالم نتيجة التطورات الداخلية الخطيرة. فعلى سبيل المثال، أدت أزمة اليورو إلى نزاعات اقتصادية بين دول البحر المتوسط ​، خاصة اليونان وإيطاليا اللتين عانتا من تراجع كبير في مستوى الرفاهية، في حين ظلت اقتصاديات دول مثل ألمانيا وفرنسا مستقرة. وعلاوة على ذلك، رفضت التشيك والمجر وبولندا قرار إعادة توطين الاتحاد الأوروبي الذي ينص على إعادة توزيع اللاجئين في إيطاليا واليونان، وتوجيههم إلى دول أخرى في الاتحاد الأوروبي. وبالمثل، وضعت كثير من دول الاتحاد الأوروبي سياسات تهدف إلى منع اللاجئين من دخولها. وجهت أزمة الهجرة ضربة قاسية لترابط الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من إحراز تقدم في منع الهجرة غير النظامية، ما تزال السياسات الأوروبية متأثرة بالمشاكل التقليدية الناجمة عن الهجرة غير النظامية، مثل المأوى والتغذية وإجراءات اللجوء، فضلاً عن النتائج المصطنعة لظواهر الإسلاموفوبيا وكراهية الأجانب والشعبوية.

على أن أكبر ضربة للتكامل الأوروبي كانت البريكسيت دون شك، فللمرة الأولى في تاريخ الاتحاد، اتخذت دولة عضو خطوات للانفصال، الأمر الذي ألحق أضرارًا بالغة بمفهوم التكامل كونه عملية لا رجعة فيها. عندما ندرس المساهمة التي قدمتها المملكة المتحدة لأوروبا عسكريا واقتصاديا وسياسيا، فإن الأسئلة التي تطرح نفسها صراحة هي: ما هو نوع الاتحاد الذي سيكون عليه الاتحاد الأوروبي بدون المملكة المتحدة، وكيف سيتأثر توازن القوى الداخلي؟.

من ناحية أخرى، فإن الضغوط الاجتماعية لمواجهة عدم المساواة، والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي خلقتها السياسات النيوليبرالية قد أدت إلى تفاقم المخاطر وعدم اليقين المحيط بمستقبل الاتحاد الأوروبي. أصبح الجناح اليميني المتطرف في أوروبا التيار السائد على نحو متزايد، حيث إنه انتصر مرارا وتكرارا على أحزاب اليمين واليسار في الانتخابات. في الماضي، كانت الأحزاب العنصرية التي تدعو إلى كراهية الأجانب تُعرف بأنها حركات هامشية لا تحظى بقبول واسع، ولكن الأحزاب اليمينية المتطرفة توصف اليوم بأنها "شعبوية جيدة" تستقطب كتلة جماهيرية كبيرة في التصويت. ولا يقتصر الأمر على مجرد صعود التيار اليميني المتطرف الذي يجب أن يثير القلق أيضًا، ذلك أن أوروبا تشهد "حقبة تطرف" تتآكل فيها القيم العالمية؛ لأن الأحزاب التي تدّعي أنها تمثل الموقف المعتدل تنخرط في السياسة التي تستخدم لغة كراهية الأجانب ومعاداة الإسلام والخطاب الانعزالي. إن اختلاف السياسات الحزبية حولها إلى حد أنها أصبحت تشبه بعضها بعضا، بحيث تشكل تهديدًا أكبر للديمقراطية التمثيلية وتجعل البدائل المتطرفة أكثر جاذبية. ونتيجة لذلك، بدأت "جدران برلين الإيديولوجية" في الظهور في جميع أنحاء أوروبا.

وكما فصلنا آنفا، يجبر المنعطف الدولي الاتحاد الأوروبي على إعادة تحديد دوره في النظام الدولي، لا سيما من ناحية الأمن. ذلك أن إعلان الولايات المحدة أنها لم تعد ضامنة للأمن الأوروبي، دفع الاتحاد الأوروبي إلى أخذ زمام المبادرة عندما يتعلق الأمر ببناء مستقبله الخاص. وقد توطدت أهمية التعاون الدفاعي الوثيق في الاتحاد الأوروبي بإطلاق برنامج التعاون الهيكلي الدائم (PESCO) الذي أقامته أخيرا 25 دولة عضو، وتم تسريعها جزئيًا من خلال عملية البريكسيت. مهدت هذه التطورات الطريق لتعاون أعمق في مجال الدفاع، وإثبات أن الاتحاد الأوروبي يدرك أن قوته وقيادته العالمية قد أصبحت موضع تساؤل. ولعل هذا هو السبب في أن الاتحاد الأوروبي يحاول تحديد اتجاهه السياسي لأول مرة منذ معاهدة لشبونة.

دفع الكتاب الأبيض الذي نشرته المفوضية الأوروبية وتوصيات الرئيس الفرنسي، ماكرون، الاتحاد الأوروبي إلى مرحلة جديدة من الإصلاح. وفي حين تتعامل بلدان مثل فرنسا مع هذه العملية بحيوية، فإن بعض البلدان الأعضاء، وخاصة بلدان أوروبا الشرقية، أصبحت أكثر تشككا في المشاركة. ومن ناحية أخرى، كانت ألمانيا مجرد مشاهد لهذه العملية بسبب قضاياها الداخلية. ونتيجة لذلك، ستضطلع الانقسامات السياسية والإقليمية في أوروبا بدورا حاسم في تحقيق الإصلاحات مدار البحث. بعد عام 2019، عندما تُعقد انتخابات البرلمان الأوروبي ورؤساء المجلس والمفوضية، يعتزم الاتحاد الأوروبي مراجعة المعاهدات المتعلقة بالهيكل التنظيمي والعمليات وإطلاق حقبة جديدة من الإصلاح. ولكن، إذا لم ينفذ الاتحاد سياسات متوازنة وواقعية وشاملة، فإن عملية الإصلاح هذه يمكن أن تعمق الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي وتؤدي إلى تفاقم الخلافات بين الدول الأعضاء.

ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يركز  على حل المشاكل القائمة في أقرب وقت ممكن وتجديد الثقة بالاتحاد بدلاً من تعميق العلاقات. إن هذه الفترة الحرجة التي يمر بها الاتحاد تشير إلى أنه يتحرك نحو تكامل أكثر مرونة وليس نحو بنية موحدة للاتحاد الأوروبي. وإذا تمكن الاتحاد الأوروبي من حشد الإرادة السياسية اللازمة، فإنه يستطيع تحويل هذه الأزمة الوجودية إلى فرصة. ولتحقيق ذلك، يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تعزيز الشراكات القائمة وإنشاء آليات جديدة للتعاون والحوار أكثر من أي وقت مضى. بدأ الاتحاد الأوروبي عملية مراجعة سياساته الحالية، وخاصة سياساته للتوسع وسياساته نحو الدول الجارة. وفي هذا السياق، جعل الاتحاد الأوروبي سياسته بشأن غرب البلقان أحد بنود جدول الأعمال ذات الأولوية. إن عدم الاستقرار الناشئ في دول غرب البلقان بسبب التأثير المتزايد لروسيا والصين في المنطقة جعل من الضروري أن يقيم الاتحاد الأوروبي علاقات أوثق مع دول هذه المنطقة. في شباط/ فبراير، نشر الاتحاد الأوروبي استراتيجيته للتوسع في البلقان الغربي، وإعطاء دول غرب البلقان آفاقا واضحة للعضوية وتاريخا مؤقتا للانضمام (2025) على الرغم من أنه موعد غير ملزم. وعلاوة على ذلك، عقد الاتحاد الأوروبي قمة غرب البلقان في 17 أيار/ مايو 2018 بغرض تعزيز علاقاته مع هذه الدول. تدعم تركيا عضوية دول غرب البلقان في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وأعربت عن سعادتها بهذه الخطوات البناءة. ولكن في الوقت نفسه من الصعب فهم كيف يتم إعطاء غرب البلقان آمالا في العضوية، بينما تظل تركيا مستثناة.

والحق أن عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي أكثر أهمية من أي وقت مضى بالنظر إلى الديناميكيات والتغيرات الجديدة في النظام العالمي. ومن الواضح أن النظام الدولي يحتاج إلى تعاون بين تركيا والاتحاد الأوروبي من أجل حل عدد من المشاكل العالمية التي تتراوح من مشكلات الاقتصاد والطاقة إلى السياسة الخارجية، بالإضافة إلى التمييز والإرهاب في سياق قيمنا المشتركة. لذلك، فمن الضروري أن تصل العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي إلى مستوى معين من القوة وأن يقوم الاتحاد الأوروبي بتطوير نهج عادل ومبدئي تجاه تركيا.

عن الكاتب

عمر تشيليك

صحفي وسياسي تركي ووزير الثقافة والسياحة التركي السابق


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس