صوفيا خوجاباشي - خاص ترك برس

تبدأ السردية التي نتحدث عنها، بسؤال شاب لم يبلغ بعد ربيعه العشرين، وهو مواطن لإحدى الدول العربية..

 ما قصة آيا صوفيا، ولماذا يتحدث الجميع عن هذه القضية؟

وبعد أن وجد ضالته في إجابة مفصلة، أشبعت فضوله الغض، قال كلمة واحدة..

"لا أحب تركيا وأردوغان!".. 

قالها مشحوناً بأفكاره المشوشة، ومخزونه الذي يفوق حصيلته المعرفية.

محاولات حثيثة، أعقبت جملته الاعتراضية، للاستفسار أكثر، عن سبب وجيه، أو قاعدة جوهرية، بنى عليها معتقداته.. فيما ظل يردد كشريط "كاسيت" قديم.. 

لا أحبه وفقط! دون أن يقدم أي تعليل لموقفه المتشنج.

لم ألُمه، بل أشفقت عليه، فهو فرد من مجموعة كبيرة، تسمع دون أن تنقد، وتصدق دون أن تستفسر، وتقتنع دون تفكر. هو حطب الآلة الإعلامية، ضحية التعرض السلبي للإعلام الحكومي أو رديفه من إعلام خاص ناطق بلسان الدولة، وبيدق حرب سياسية، وعيه هو المستهدف فيها.

ويمكن أن نشبه ما أتحدث عنه، باستراتيجية "مناعة القطيع" الطبية، التي طبقتها بعض دول العالم خلال موجة كورونا، كـ"شكل من أشكال الحماية غير المُباشرة من مرضٍ معدٍ"؛ ووصفها البعض بأنها كـ "إطعام الفيروس حتى يموت من التخمة"، أو بتفسير علمي أدق، "السماح له بإصابة أكبر عدد ممكن من الناس، حيث سيتماثل معظمهم للشفاء، ويصبح لدى الغالبية مناعة ضد المرض وهو ما سيؤدي إلى تلاشيه، مع الأخذ بعين الاعتبار، التضحية بعدد لا بأس به من الوفيات".

وعلى هذا المنوال، دأبت الأنظمة السلطوية، وأنظمة الحزب الواحد، وغيرها من المسميات، التي طغت على الظروف السياسية والاجتماعية ضمن بيئة العالم العربي، على ممارسة استراتيجية "مناعة القطيع"، من منطلق إعلامي يتلاعب بسيكولوجية الجماهير المغيبة، يقوم على تعريض الجمهور، لأكبر كم من السموم الإعلامية، حد التخمة، وإشباع رغباته القومية والوطنية والسيادية، بوجبات دسمة من التضليل، تضعه في مواجهة دائمة، مع حرب ليست موجودة، أو موجودة لأسباب لا تتعلق بالوطن والمواطن، إنما لمصالح سياسية وأخرى استراتيجية، لا يدركها المواطن البسيط، حتى يتسرب الجهل إلى مكامن وعيه؛ لكن الفرق هنا هو أن كمية التضليل التي سيتلقاها، ستقوي مناعته أمام الحقيقة ثم تتوحش خلاياه منتفضة إذا ما تسللت الحقائق دون قصد إليه.

إن المتخمين من التعرض السلبي لوسائل الإعلام الحكومية، هم في الحقيقة أكثر الجائعين للمعرفة من غيرهم.

ولقد اتخذت الصراعات السياسية، أشكالاً متنوعة، من أبرزها الحرب الإعلامية، وهو ما نراه جلياً في توجيه الدفة الإعلامية العربية، لمحاربة تركيا، كجزء من استراتيجية أوسع وأشمل.

هذا التعريض الكثيف، للجمهور العربي، على القنوات وفي الصحف، للتحريض ضد أنقرة، باللعب على أوتار متعددة، لا تتمحور فقط حول المواضيع الآنية، بل تتجاوزها إلى استحضار الماضي، والحقائق التاريخية بقالب معكوس، وربطها مع الأبعاد الوطنية، والاستهداف المباشر للوطن والقائمين عليه والساكنين أراضيه، أدى إلى خلق حالة عدائية، تجلّت في رفض الرموز الإسلامية لكونها موجودة على أرض تركية، وتتبع لحقبة عثمانية، امتلأت روايتهم حولها بالكذب والتدليس، كما حدث مع حالة الهيجان التي صاحبت نشر إحدى الشركات السعودية، صورة لجامع السلطان أحمد في إسطنبول، بدعوى أن نشر هذه الصورة، هو إشادة غير صريحة بخطوة إعادة آيا صوفيا إلى مسجد، وتعبير خفي عن انتماء الشركة والقائمين على نشر الصورة "للإخوان والعصمنليين (الدولة العثمانية)"، بحسب تعبيرهم.

ومن الطبيعي أن يكون القرار التركي، محل ترحيب الدول الإسلامية، إلا أن دولاً "إسلامية"، كان لها رأي مغاير تماماً، فاستأجرت الأقلام والحناجر، للتجييش ضد القرار خدمة للأهداف السياسية، على حساب القيمة الأخلاقية والدينية.

وضمن السياق نفسه، أسقط الانقلاب في مصر، أول رئيس منتخب، الدكتور محمد مرسي، المتهم بالتفريط بحصة مصر من مياه النيل، وسوء إدارة ملف سد النهضة الأثيوبي؛ التهم التي رددها "القطيع"، ضد مرسي، ترديدا ببغائيا لما كان يصدر عن الإعلام في تلك الحقبة، إلا أن من جعلها واقعاً، هو رئيسهم المفوض بحياتهم، عبد الفتاح السيسي، عندما وقّع على إعلان "مبادئ وثيقة سد النهضة" في مارس/آذار 2015، والذي تنازل بموجبه عن حصة بلاده التاريخية من مياه النيل، واعترف بحق أديس بابا في بناء السد.

هي الاستراتيجية ذاتها بالنظر إلى الأهداف، لكن عن طريق "منع التعرض"، التي دفعت بالشركات المالكة لكبرى مواقع التواصل الاجتماعي في العالم، لحذف الفيديوهات التي تلخص مراحل الثورة السورية، وتقييد الكلمات التي تتحدث عن المواضيع المهتمة بالثورة، أو القضية الفلسطينية، أو حركة حماس، وصولاً إلى حذف فلسطين من الخرائط الإلكترونية، والهدف من كل ذلك، طمس الأحداث، وسهولة تزوير الحقائق، والمساهمة في تقييد الأدبيات المعنية بالثورات وحقوق الأفراد، وقضاياهم العادلة.

ورغم أن هذه النظرية، تبرز قوة الإعلام في التأثير والتحكم بمقدرات الفرد الفكرية، إلا أن الأداة الإعلامية لن تؤدي دورها بفاعلية، لو وصلت غالبية الجماهير إلى الوعي السياسي، المنبثق من تراكم المعرفة السياسية القادرة على التحول إلى ثقافة مستمرة.

وحتى هذا الوقت ستظل الشعوب بيدق حروب سياسية، تميل بفكرها مع ميل الإرادة السياسية لدولتهم، وهو ما يجعل قرارهم في شتات، ووعيهم في ضياع، محكوم لمزاج الحاكم وقراراته العليا.

عن الكاتب

صوفيا خوجاباشي

كاتبة وصحفية تركية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس