طه كلينتش - يني شفق

من المثير للاهتمام أن آيات القرآن الكريم التي نزلت في السنوات الأولى للإسلام كانت تتحدث باستمرار عن تاريخ بني إسرائيل لمجموعة صغيرة من المسلمين في مكة. فما السبب في تكرار سرد تاريخ اليهود، وتحركاتهم في المنطقة، وما حدث لهم، والظلم الذي تعرضوا له، وأخيرا ماعاشوه لاحقا، على مسامع المسلمين الذين كانوا يخوضون معركة البقاء تحت تعذيب المشركين وضغوطهم؟ لا شك أن السبب الرئيسي كان تعزيز المجتمع الإسلامي الأول. ولكن على نطاق أوسع، كان يتم إطلاع المسلمين على معلومات تتعلق باليهود الذين كانوا سيشاركونهم نفس المدينة ويعيشون معهم في المدينة المنورة.

ولم يغب اليهود عن صدارة المشهد في القرآن الكريم حتى نهاية الوحي. فعندما انتقل المسلمون إلى المدينة المنورة، ازدادت التفاصيل المتعلقة بشخصيات اليهود، وأصبحت الصور شديدة الحداثة. فكان المسلمون يعيشون في نفس المدينة مع الشخصيات التي وصفها القرآن الكريم.

وعندما هاجر الرسول الكريم ﷺ إلى المدينة المنورة، وجد مدينة يهيمن عليها اليهود ويحددون توازناتها في كل مجال تقريبا. لذلك كان أول ما فعله هو توقيع معاهدة اجتماعية "وثيقة المدينة" شاركت فيها جميع العناصر التي كانت تعيش في المدينة المنورة، وفي مقدمتهم اليهود. وبينما تمكنت الجماعة الإسلامية الموحدة بقيادة الرسول الكريم ﷺ من السيطرة على اليهود وتضييق مجال حركتهم، تم تحديد الحقوق والمسؤوليات التي تفرضها الحياة في نفس المدينة بدقة. وبذلك، تم تقديم خارطة طريق شاملة للمسلمين الذين سيأتون إلى يوم القيامة حول كيفية العيش مع اليهود والتعامل معهم. في هذا السياق يجب التفكير بعمق حول سبب توجه النبي ﷺ بأمر إلهي إلى المدينة بدلا من الطائف التي كان ينوي الهجرة إليها عندما كان في مكة. ففي السيناريو الإلهي، لا مكان للثغرات أو الصدف.

بعد ذلك، نكث اليهود العهود التي قطعوها على أنفسهم طواعية مع المسلمين ووقعوا عليها. فتم نفي قبائل اليهود التي كانت تعيش في المدينة، وهي بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة، واحدة تلو الأخرى بسبب الجرائم التي ارتكبوها، وعوقب أفرادها وفقا لما تقرره شريعتهم. ولم يتمكنوا من الاعتراض على ما حدث، لأنهم كانوا على دراية بأفعالهم.

وبدراسة هذه العملية كاملة بعناية، يتضح أن المجتمع المسلم مر بثلاث مراحل أساسية في علاقاته مع اليهود وهي:

1) التعرف على الطرف الآخر بكل أبعاده وتفاصيله.

2) محاولة العيش المشترك وإقامة علاقات قائمة على السلم في البداية.

3) الصراع والحرب والنفي في النهاية، نتيجة للمواقف العدائية التي اتخذها اليهود تجاه المسلمين.

والسؤال الآن، هل كان العالم الإسلامي، وخاصة الشعوب المسلمة في الشرق الأوسط، على دراية كافية بمواجهتهم مع اليهود في الوقت الذي كان فيه مشروع الاحتلال الصهيوني الذي أدى إلى تأسيس إسرائيل يزداد زخما؟ هل كانوا على علم بأن اليهود يميلون إلى إقصاء المسلمين وإثارة الصراع بدلا من التعايش السلمي؟ وهل كانوا يدركون أن محاولات السلام ستبوء بالفشل في كل مرة، وأنه سيتعين عليهم في النهاية التحدث مع المفسدين بلغة يفهمونها؟

عندما ننظر إلى تاريخ صراع فلسطين الذي يقارب قرنا من الزمن نواجه حقيقة مؤلمة، لقد عاش العالم الإسلامي حالة من الارتباك المستمر حول كيفية التعامل مع المشروع الصهيوني للاحتلال، ونتيجة لذلك ظهرت عشرات المبادرات المتناقضة والمتصارعة. وقد أدى ذلك إلى ترسيخ الاحتلال وتعمقه، بينما تنوعت الخلافات والانقسامات بين المسلمين، وتحولت إلى بؤرة انشغال وجدل بدلا من التركيز على مقاومة الاحتلال. وتزخر مئة عام من التاريخ بالفرص الضائعة والإمكانيات المهدرة.

وإن ما يدفع إسرائيل اليوم إلى التحرك بهذه الراحة والجرأة هو ثقتها بمعرفة حدود قدرة خصومها المسلمين وإمكانياتهم. فهم يتابعون عن كثب نبض الأحداث في العواصم الإسلامية ويرون المشهد بوضوح.

من جهة أخرى، ومع مرور الوقت تتعرض إسرائيل أيضا للتآكل وتتعمق الفوضى والأزمات الداخلية. وبينما أضاع العالم الإسلامي عقودا من الزمن، بدأت ـ بتقدير إلهي ـ مرحلة تراجع إسرائيل وانهيارها . وكما ذكرت في مقال سابق، فإن المدة التي يمنحها الله للظالمين بدأت تضيق. لقد قُلبت الساعة الرملية. وليت المسلمين استطاعوا بجهدهم وسعيهم ونضالهم المنظم، أن يقلصوا من مهلة الظالم.

عن الكاتب

طه كلينتش

كاتب تركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس